الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار **
عن جابر بن عبد اللَّه قال: (جاء رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يعودني وأنا مريض لا أعقل فتوضأ وصب وضوءه علي). متفق عليه. 2- وفي حديث صلح الحديبية من رواية المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم: (ما تنخم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل فدلك بها وجهه وجلده وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه). وهو بكماله لأحمد والبخاري. قوله: (يعودني) زاد البخاري في الطب (ماشيًا) قوله: (لا أعقل) أي لا أفهم وحذف مفعوله إشارة إلى عظم الحال أو لغرض التعميم أي لا أعقل شيئًا من الأمور وصرح البخاري بقوله: شيئًا في التفسير من صحيحه وله في الطب (فوجدني قد أغمي علي). قوله: (وضوءه) يحتمل أن يكون المراد صب على بعض الماء الذي توضأ به ويدل على ذلك ما في رواية للبخاري بلفظ: (من وضوئه) ويحتمل أنه صب عليه ما بقي والأول أظهر لقوله: في حديث الباب (فتوضأ وصب وضوءه علي) ولأبي داود (فتوضأ وصبه علي) فإنه ظاهر في أن المصبوب هو الماء الذي وقع به الوضوء. قوله: (ما تنخم) التنخم دفع الشيء من الصدر أو الأنف. وقد استدل الجمهور بصبه صلى اللَّه عليه وسلم لوضوئه على جابر وتقريره للصحابة على التبرك بوضوئه وعلى طهارة الماء المستعمل للوضوء وذهب بعض الحنفية وأبو العباس إلى أنه نجس واستدلوا على ذلك بأدلة: منها حديث أبي هريرة بلفظ: (لا يغتسلن أحدكم في الماء الدائم وهو جنب) وفي رواية (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه) وسيأتي قالوا والبول ينجس الماء فكذا الاغتسال لأنه صلى اللَّه عليه وسلم قد نهى عنهما جميعًا. ومنها الإجماع على إضاعته وعدم الانتفاع به. ومنها أنه ماء أزيل به مانع من الصلاة فانتقل المنع إليه كغسالة النجس المتغيرة ويجاب عن الأول بأنه أخذ بدلالة الاقتران وهي ضعيفة وبقول أبي هريرة يتناوله تناولًا كما سيأتي فإنه يدل على أن النهي إنما هو عن الانغماس لا عن الاستعمال وإلا لما كان بين الانغماس والتناول فرق. وعن الثاني بأن الإضاعة لا غناء غيره عنه لا لنجاسته. وعن الثالث بالفرق بين مانع هو النجاسة ومانع هو غيرها وبالمنع من أن كل مانع يصير له بعد انتقاله الحكم الذي كان له قبل الانتقال وأيضًا هو تمسك بالقياس في مقابلة النص وهو فاسد الاعتبار ويلزمهم أيضًا تحريم شربه وهم لا يقولون به. ومن الأحاديث الدالة على ما ذهب إليه الجمهور حديث أبي جحيفة عند البخاري قال: (خرج علينا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بالهاجرة فأتي بوضوء فتوضأ فجعل الناس يأخذون من فضل وضوئه فيتمسحون به) وحديث أبي موسى عنده أيضًا قال: (دعا النبي صلى اللَّه عليه وسلم بقدح فيه ماء فغسل يديه ووجهه فيه ومج فيه ثم قال لهما يعني أبا موسى وبلالًا اشربا منه وأفرغا على وجوهكما ونحوركما) وعن السائب بن يزيد عنده أيضًا قال: (ذهبت بي خالتي إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم فقالت: يا رسول اللَّه إن ابن أختي وقع أي مريض فمسح رأسي ودعا لي بالبركة ثم توضأ فشربت من وضوئه ثم قمت خلف ظهره) الحديث. فإن قال الذاهب إلى نجاسة المستعمل للوضوء أن هذه الأحاديث غاية ما فيها الدلالة على طهارة ما توضأ به صلى اللَّه عليه وسلم ولعل ذلك من خصائصه. قلنا هذه دعوى غير نافقة فإن الأصل أن حكمه وحكم أمته واحد إلا أن يقوم دليل يقضي بالاختصاص ولا دليل. وأيضًا الحكم بكون الشيء نجسًا حكم شرعي يحتاج إلى دليل يلتزمه الخصم فما هو. 3- وعن حذيفة بن اليمان: (أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم لقيه وهو جنب فحاد عنه فاغتسل ثم جاء فقال: كنت جنبًا فقال: إن المسلم لا ينجس). رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي. وروى الجماعة كلهم نحوه من حديث أبي هريرة. حديث أبي هريرة المشار إليه له ألفاظ منها: (أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم لقيه في بعض طرق المدينة وهو جنب فانخنس منه فذهب فاغتسل ثم جاء فقال له: أين كنت يا أبا هريرة فقال: كنت جنبًا فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة فقال: سبحان اللَّه إن المؤمن لا ينجس). قوله: (وهو جنب) يعني نفسه. وفي رواية أبي داود (وأنا جنب) وهذه اللفظة تقع على الواحد المذكر والمؤنث والاثنين والجمع بلفظ واحد. قال اللَّه تعالى في الجمع قوله: (فحاد عنه) أي مال وعدل. قوله: (لا ينجس) فيه لغتان ضم الجيم وفتحها وفي ماضيه أيضًا لغتان نجس ونجس بكسر الجيم وضمها فمن كسرها في الماضي فتحها في المضارع ومن ضمها في الماضي ضمها في المضارع أيضًا قال النووي: وهذا قياس مطرد ومعروف عند أهل العربية إلا أحرفًا مستثناة من الكسر. قوله: (إن المسلم) تمسك بمفهومه بعض أهل الظاهر وحكاه في البحر عن الهادي والقاسم والناصر ومالك فقالوا إن الكافر نجس عين وقووا ذلك بقوله: تعالى وقوله: لأبي ثعلبة لما قال له: يا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إنا بأرض قوم أهل الكتاب أفنأكل في آنيتهم قال: (إن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها وإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها) وسيأتي في باب آنية الكفار. وأجاب الجمهور عن حديث إنزال وفد ثقيف بأنه حجة عليهم لا لهم لأن قوله: ليس على الأرض من أنجاس القوم شيء إنما أنجاس القوم على أنفسهم بعد قول الصحابة قوم أنجاس صريح في نفي النجاسة الحسية التي هي محل النزاع ودليل على أن المراد نجاسة الاعتقاد والاستقذار. وعن حديث أبي ثعلبة بأن الأمر بغسل الآنية ليس لتلوثها برطوباتهم بل لطبخهم الخنزير وشربهم الخمر فيها يدل على ذلك ما عند أحمد وأبي داود من حديث أبي ثعلبة أيضًا بلفظ: (إن أرضنا أرض أهل كتاب وإنهم يأكلون لحم الخنزير ويشربون الخمر فكيف نصنع بآنيتهم وقدورهم) وسيأتي. ومن أجوبة الجمهور عن الآية ومفهوم حديث الباب بأن ذلك تنفير عن الكفار وإهانة لهم وهذا وإن كان مجازًا فقرينته ما ثبت في الصحيحين من أنه صلى اللَّه عليه وسلم توضأ من مزادة مشركة وربط ثمامة بن أثال وهو مشرك بسارية من سواري المسجد. وأكل من الشاة التي أهدتها له يهودية من خيبر. وأكل من الجبن المجلوب من بلاد النصارى كما أخرجه أحمد وأبو داود من حديث ابن عمر. وأكل من خبز الشعير والإهالة لما دعاه إلى ذلك يهودي وسيأتي في باب آنية الكفار وما سلف من مباشرة الكتابيات والإجماع على جواز مباشرة المسبية قبل إسلامها وتحليل طعام أهل الكتاب ونسائهم بآية المائدة وهي آخر ما نزل وإطعامه صلى اللَّه عليه وسلم وأصحابه للوفد من الكفار من دون غسل للآنية ولا أمر به ولم ينقل توقي رطوبات الكفار عن السلف الصالح ولو توقوها لشاع. قال ابن عبد السلام: ليس من التقشف أن يقول أشتري من سمن المسلم لا من سمن الكافر لأن الصحابة لم يلتفتوا إلى ذلك. وقد زعم المقبلي في المنار أن الاستدلال في الآية المذكورة على نجاسة الكافر وهم لأنه حمل لكلام اللَّه ورسوله على اصطلاح حادث وبين النجس في اللغة وبين النجس في عرف المتشرعة عموم وخصوص من وجه فالأعمال السيئة نجسة لغة لا عرفًا والخمر نجس عرفًا وهو أحد الأطيبين عند أهل اللغة والعذرة نجس في العرفين فلا دليل في الآية انتهى. ولا يخفاك أن مجرد تخالف اللغة والاصطلاح في هذه الأفراد لا يستلزم عدم صحة الاستدلال بالآية على المطلوب والذي في كتب اللغة أن النجس ضد الطاهر قال في القاموس: النجس بالفتح وبالكسر وبالتحريك وككتف وعضد ضد الطاهر انتهى. فالذي ينبغي التعويل عليه في عدم صحة الاحتجاج بها هو ما عرفناك وحديث الباب أصل في طهارة المسلم حيًا وميتًا أما الحي فإجماع وأما الميت ففيه خلاف. فذهب أبو حنيفة ومالك ومن أهل البيت الهادي والقاسم والمؤيد باللَّه وأبو طالب إلى نجاسته وذهب غيرهم إلى طهارته واستدل صاحب البحر للأولين على النجاسة بنزح زمزم من الحبشي وهذا مع كونه من فعل ابن عباس كما أخرجه الدارقطني عنه وقول الصحابي وفعله لا ينتهض للاحتجاج به على الخصم محتمل أن يكون للاستقذار لا للنجاسة ومعارض بحديث الباب وبحديث ابن عباس نفسه عند الشافعي والبخاري تعليقًا بلفظ: (المؤمن لا ينجس حيًا ولا ميتًا) وبحديث أبي هريرة المتقدم. وبحديث ابن عباس أيضًا عند البيهقي (إن ميتكم يموت طاهرًا فحسبكم أن تغسلوا أيديكم) وترجيح رأي الصحابي على روايته عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم ورواية غيره من الغرائب التي لا يدرى ما الحامل عليها. وفي الحديث من الفوائد مشروعية الطهارة عند ملابسة الأمور العظيمة واحترام أهل الفضل وتوقيرهم ومصاحبتهم على أكمل الهيئات وإنما حاد حذيفة عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم وانخنس أبو هريرة لأنه صلى اللَّه عليه وسلم كان يعتاد مماسحة أصحابه إذا لقيهم والدعاء لهم هكذا رواه النسائي وابن حبان من حديث حذيفة فلما ظنا أن الجنب يتنجس بالحدث خشيا أن يماسحهما كعادته فبادرا إلى الاغتسال وإنما ذكر المصنف رحمه اللَّه هذا الحديث في باب طهارة الماء المتوضأ به لقصد تكميل الاستدلال على عدم نجاسة الماء المتوضأ به لأنه إذا ثبت أن المسلم لا ينجس فلا وجه لجعل الماء نجسًا بمجرد مماسته له وسيأتي في هذا الكتاب باب معقود لعدم نجاسة المسلم بالموت وسيشير المصنف إلى هذا الحديث هنالك.
1- عن أبي هريرة أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: (لا يغتسلن أحدكم في الماء الدائم وهو جنب فقالوا يا أبا هريرة كيف يفعل قال يتناوله تناولًا). رواه مسلم وابن ماجه. ولأحمد وأبي داود: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسل فيه من جنابة). قوله: (في الماء الدائم) هو الساكن قال في الفتح: يقال دوم الطائر تدويمًا إذا صف جناحيه في الهواء فلم يحركهما. والرواية الأولى من حديث الباب تدل على المنع من الاغتسال في الماء الدائم للجنابة وإن لم يبل فيه. والرواية الثانية تدل على المنع من كل واحد من البول والاغتسال فيه على انفراده وسيأتي في باب حكم الماء إذا لاقته نجاسة حديث أبي هريرة بلفظ ثم يغتسل فيه ويأتي البحث عن حكم البول في الماء الدائم والاغتسال فيه هنالك. وقد استدل بالنهي عن الاغتسال في الماء الدائم على أن الماء المستعمل يخرج عن كونه أهلًا للتطهير لأن النهي ههنا عن مجرد الغسل فدل على وقوع المفسدة بمجرده وحكم الوضوء حكم الغسل في هذا الحكم لأن المقصود التنزه عن التقرب إلى اللَّه تعالى بالمستقذرات والوضوء يقذر الماء كما يقذره الغسل. وقد ذهب إلى أن الماء المستعمل غير مطهر أكثر العترة وأحمد بن حنبل والليث والأوزاعي والشافعي ومالك في إحدى الروايتين عنهما وأبو حنيفة في رواية عنه واحتجوا بهذا الحديث وبحديث النهي عن التوضؤ بفضل وضوء المرأة واحتج لهم في البحر بما روي عن السلف من تكميل الطهارة بالتيمم عند قلة الماء لا بما تساقط منه. وأجيب عن الاستدلال بحديث الباب بأن علة النهي ليست كونه يصير مستعملًا بل مصيره مستخبثًا بتوارد الاستعمال فيبطل نفعه ويوضح ذلك قول أبي هريرة يتناوله تناولًا وباضطراب متنه وبأن الدليل أخص من الدعوى لأن غاية ما فيه خروج المستعمل للجنابة والمدعى خروج كل مستعمل عن الطهورية وعن حديث النهي عن التوضؤ بفضل وضوء المرأة بمنع كون الفضل مستعملًا ولو سلم فالدليل أخص من الدعوى لأن المدعى خروج كل مستعمل عن الطهورية لا خصوص هذا المستعمل وبالمعارضة بما أخرجه مسلم وأحمد من حديث ابن عباس (أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كان يغتسل بفضل ميمونة) وأخرجه أحمد أيضًا وابن ماجه بنحوه من حديثه وأخرجه أيضًا أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وصححه من حديثه بلفظ: (اغتسل بعض أزواج النبي صلى اللَّه عليه وسلم في جفنة فجاء النبي صلى اللَّه عليه وسلم ليتوضأ منها أو يغتسل فقالت له يا رسول اللَّه إني كنت جنبًا فقال إن الماء لا يجنب). وأيضًا حديث النهي عن التوضؤ بفضل وضوء المرأة فيه مقال سيأتي بيانه في بابه وعن الاحتجاج بتكميل السلف للطهارة بالتيمم لا بما تساقط بأنه لا يكون حجة إلا بعد تصحيح النقل عن جميعهم ولا سبيل إلى ذلك لأن القائلين بطهورية المستعمل منهم كالحسن البصري والزهري والنخعي ومالك والشافعي وأبي حنيفة في إحدى الروايات عن الثلاثة المتأخرين ونسبه ابن حزم إلى عطاء وسفيان الثوري وأبي ثور وجميع أهل الظاهر وبأن المتساقط قد فني لأنهم لم يكونوا يتوضئون إلى إناء والملتصق بالأعضاء حقير لا يكفي بعض عضو من أعضاء الوضوء وبأن سبب الترك بعد تسليم صحته عن السلف وإمكان الانتفاع بالبقية هو الاستقذار وبهذا يتضح عدم خروج المستعمل عن الطهورية وتحتم البقاء على البراءة الأصلية لا سيما بعد اعتضادها بكليات وجزئيات من الأدلة كحديث (خلق الماء طهورًا) وحديث مسحه صلى اللَّه عليه وسلم رأسه بفضل ماء كان بيده وسيأتي وغيرهما. وقد استدل المصنف رحمه اللَّه بحديث الباب على عدم صلاحية المستعمل للطهورية فقال وهذا النهي عن الغسل فيه يدل على أنه لا يصح ولا يجزئ وما ذاك إلا لصيرورته مستعملًا بأول جزء يلاقيه من المغتسل فيه وهذا محمول على الذي لا يحمل النجاسة فأما ما يحملها فالغسل فيه مجزئ فالحدث لا يتعدى إليه حكمه من طريق الأولى انتهى. 2- وعن سفيان الثوري عن عبد اللَّه بن محمد بن عقيل حدثتني الربيع بنت معوذ بن عفراء فذكر حديث وضوء النبي صلى اللَّه عليه وسلم وفيه: (ومسح صلى اللَّه عليه وسلم رأسه بما بقي من وضوئه في يده مرتين بدأ بمؤخره ثم رده إلى ناصيته وغسل رجليه ثلاثًا ثلاثًا). رواه أحمد وأبو داود مختصرًا ولفظه: (أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم مسح رأسه من فضل ماء كان بيديه) قال الترمذي: عبد اللَّه بن محمد بن عقيل صدوق ولكن تكلم فيه بعضهم من قبل حفظه. وقال البخاري: كان أحمد وإسحاق والحميدي يحتجون بحديثه. الخلاف بين الأئمة في الاحتجاج بحديث ابن عقيل مشهور وهو أبو محمد عبد اللَّه بن محمد بن عقيل بن أبي طالب. والكلام على أطراف هذا الحديث محله الوضوء. ومحل الحجة منه مسح الرأس بما بقي من وضوء في يده فإنه مما استدل به على أن المستعمل قبل انفصاله عن البدن يجوز التطهر به. قيل: وقد عارضه مع ما فيه من المقال أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم مسح رأسه بماء غير فضل يديه كحديث مسلم (أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم مسح برأسه بماء غير فضل يديه) وأخرج الترمذي من حديث عبد اللَّه بن زيد (أنه رأى النبي صلى اللَّه عليه وسلم توضأ وأنه مسح رأسه بماء غير فضل يديه) وأخرج أيضًا من حديثه (أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أخذ لرأسه ماء جديدًا) وأخرج ابن حبان في صحيحه من حديثه أيضًا نحوه. وأنت خبير بأن كونه صلى اللَّه عليه وسلم أخذ لرأسه ماء جديدًا كما وقع في هذه الروايات لا ينافي ما في حديث الباب من أنه صلى اللَّه عليه وسلم مسح رأسه بما بقي من وضوئه في يديه لأن التنصيص على شيء بصيغة لا تدل إلا على مجرد الوقوع ولم يتعرض فيها لحصر على المنصوص عليه ولا نفى لما عداه لا يستلزم عدم وقوع غيره. والأولى الاحتجاج بما أخرجه الترمذي والطبراني من رواية ابن جارية بلفظ: (خذ للرأس ماء جديدًا) فإن صح هذا دل على أنه يجب أن يؤخذ للرأس ماء جديد ولا يجزئ مسحه بفضل ماء اليدين ويكون المسح ببقية ماء اليدين إن صح حديث الباب مختصًا به صلى اللَّه عليه وسلم لما تقرر في الأصول من أن فعله صلى اللَّه عليه وسلم لا يعارض القول الخاص بالأمة بل يكون مختصًا به وذلك لأن أمره صلى اللَّه عليه وسلم للأمة أمرًا خاصًا بهم أخص من أدلة التأسي القاضية بإتباعه في أقواله وأفعاله فيبنى العام على الخاص ولا يجب التأسي به في هذا الفعل الذي ورد أمر الأمة بخلافه وما نحن فيه من هذا القبيل وإن كان خطابًا لواحد لأنه يلحق به غيره إما بالقياس أو بحديث (حكمي على واحد كحكمي على الجماعة) وهو إن لم يكن حديثًا معتبرًا عند أئمة الحديث فقد شهد لمعناه حديث: (إنما قولي لامرأة كقولي لمائة امرأة) ونحوه. قال المصنف رحمه اللَّه بعد أن ساق الحديث ما لفظه: وعلى تقدير أن يثبت أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم مسح رأسه بما بقي من بلل يديه فليس يدل على طهورية الماء المستعمل لأن الماء كلما تنقل في محال التطهير من غير مفارقة إلى غيرها فعمله وتطهيره باق ولهذا لا يقطع عمله في هذه الحال تغيره بالنجاسات والطهارات انتهى. وقد قدمنا ما هو الحق في الماء المستعمل.
1- عن عبد اللَّه بن زيد بن عاصم. أنه قيل له توضأ لنا وضوء رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فدعا بإناء فأكفأ منه على يديه فغسلهما ثلاثًا ثم أدخل يده فاستخرجها فمضمض واستنشق من كف واحدة ففعل ذلك ثلاثًا ثم أدخل يده فاستخرجها فغسل وجهه ثلاثًا ثم أدخل يده فاستخرجها فغسل يديه إلى المرفقين مرتين ثم أدخل يده فاستخرجها فمسح برأسه فأقبل بيديه وأدبر ثم غسل رجليه إلى الكعبين ثم قال هكذا كان وضوء رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. متفق عليه ولفظه لأحمد. قوله: (فأكفأ منه) أي أمال وصب وفي رواية لمسلم أكفأ منها أي المطهرة أو الأدواة. قوله: (ثم أدخل يده) هكذا وقع في صحيح مسلم أدخل يده بلفظ الإفراد وكذا في أكثر روايات البخاري وفي رواية له (ثم أدخل يديه فاغترف بهما) وفي أخرى له من حديث ابن عباس (ثم أخذ غرفة فعل بها هكذا أضافها إلى يده الأخرى فغسل بها وجهه ثم قال هكذا رأيت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يتوضأ) وفي سنن أبي داود والبيهقي من رواية علي عليه السلام في صفة وضوء رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم (ثم أدخل يديه في الإناء جميعًا فأخذ بهما حفنة من ماء فضرب بها على وجهه) فهذه الروايات في بعضها يديه وفي بعضها يده فقط وفي بعضها يده وضم الأخرى إليها فهي دالة على جواز الأمور الثلاثة وأنها سنة. قال النووي: ويجمع بين ذلك بأن النبي صلى اللَّه عليه وسلم فعل ذلك في مرات وهي ثلاثة أوجه لأصحاب الشافعي ولكن الصحيح منها والمشهور الذي قطع به الجمهور ونص عليه الشافعي في البويطي والمزني أن المستحب أخذ الماء للوجه باليدين جميعًا لكونه أسهل وأقرب إلى الإسباغ. والكلام على أطراف الحديث يأتي في الوضوء إن شاء اللَّه وإنما ساقه المصنف ههنا للرد على من زعم أن الماء المغترف منه بعد غسل الوجه يصير مستعملًا لا يصلح للطهورية وهي مقالة باطلة يردها هذا الحديث وغيره. وقد زعم بعض القائلين بخروج المستعمل عن الطهورية أن إدخال اليد في الإناء للغرفة التي يغسلها بها يصيره مستعملًا وللحنفية والشافعية وغيرهم مقالات في المستعمل ليس عليها أثارة من علم وتفصيلات وتفريعات عن الشريعة السمحة السهلة بمعزل. وقد عرفت بما سلف أن هذه المسألة أعني خروج المستعمل عن الطهورية مبنية على شفا جرف هار. ومن فوائد هذا الحديث جواز المخالفة بين غسل أعضاء الوضوء لأنه اقتصر في غسل اليدين على مرتين بعد تثليث غيرهما. قوله: (فمسح برأسه) لم يذكر فيه عددًا كسائر الأعضاء وهكذا أطلق في حديث عثمان المتفق عليه وصرح بواحدة في حديث على عليه السلام عند الترمذي وصححه. وفي حديث ابن عباس عند أحمد وأبي داود وقد ورد التثليث في حديث علي عليه السلام من طريق خالفت الحفاظ وكذلك في حديث عثمان من طريق فيها عبد الرحمن بن وردان وسيأتي بسط الكلام على ذلك في الوضوء إن شاء اللَّه تعالى.
1- عن الحكم بن عمرو الغفاري: (أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم نهى أن يتوضأ الرجل بفضل وضوء المرأة). رواه الخمسة إلا ابن ماجه والنسائي قالا: (وضوء المرأة) وقال الترمذي: هذا حديث حسن وقال ابن ماجه: وقد روي بعده حديثًا آخر الصحيح الأول يعني حديث الحكم. الحديث صححه ابن حبان أيضًا وقال البيهقي في سننه الكبرى: قال البخاري: حديث الحكم ليس بصحيح. وقال النووي: اتفق الحفاظ على تضعيفه قال ابن حجر في الفتح: وقد أغرب النووي بذلك وله شاهد عند أبي داود والنسائي من حديث رجل صحب النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: (نهى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أن تغتسل المرأة بفضل الرجل أو الرجل بفضل المرأة وليغترفا جميعًا) قال الحافظ في الفتح: رجاله ثقات ولم أقف لمن أعله على حجة قوية ودعوى البيهقي أنه في معنى المرسل مردودة لأن إبهام الصحابي لا يضر وقد صرح التابعي بأنه لقيه. ودعوى ابن حزم أن داود الذي رواه عن حميد بن عبد الرحمن الحميري هو ابن يزيد الأودي وهو ضعيف مردودة فإنه ابن عبد اللَّه الأودي وهو ثقة وقد صرح باسم أبيه أبو داود وغيره وصرح الحافظ أيضًا في بلوغ المرام بأن إسناده صحيح. والحديث يدل على أنه لا يجوز للرجل أن يتوضأ بفضل وضوء المرأة وقد ذهب إلى ذلك عبد اللَّه بن سرجس الصحابي ونسبه ابن حزم إلى الحكم بن عمرو راوي الحديث وجويرية أم المؤمنين وأم سلمة وعمر بن الخطاب وبه قال سعيد بن المسيب والحسن البصري وهو أيضًا قول أحمد وإسحاق لكن قيداه بما إذا خلت به. وروي عن ابن عمر والشعبي والأوزاعي المنع لكن مقيدًا بما إذا كانت المرأة حائضًا. ونقل الميموني عن أحمد أن الأحاديث الواردة في منع التطهر بفضل وضوء المرأة وفي جوازه مضطربة لكن قال صح عن عدة من الصحابة المنع فيما إذا خلت به وعورض بأن الجواز أيضًا نقل عن عدة من الصحابة منهم ابن عباس واستدلوا بما سيأتي من الأدلة. وقد جمع بين الأحاديث بحمل أحاديث النهي على ما تساقط من الأعضاء لكونه قد صار مستعملًا والجواز على ما بقي من الماء وبذلك جمع الخطابي وأحسن منه ما جمع به الحافظ في الفتح من حمل النهي على التنزيه بقرينة أحاديث الجواز الآتية. 2- وعن ابن عباس: (أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كان يغتسل بفضل ميمونة). رواه أحمد ومسلم. 3- وعن ابن عباس عن ميمونة: (أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم توضأ بفضل غسلها من الجنابة). رواه أحمد وابن ماجه. 4- وعن ابن عباس قال: (اغتسل بعض أزواج النبي صلى اللَّه عليه وسلم في جفنة فجاء النبي صلى اللَّه عليه وسلم ليتوضأ منها أو يغتسل فقالت له: يا رسول اللَّه إني كنت جنبًا فقال: إن الماء لا يجنب). رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وقال: حديث حسن صحيح. حديثه الأول من كونه في صحيح مسلم قد أعله قوم بتردد وقع في رواية عمرو بن دينار حيث قال: وعلمي والذي يخطر على بالي أن أبا الشعثاء أخبرني فذكر الحديث. وقد ورد من طريق أخرى بلا تردد. وأعل أيضًا بعدم ضبط الراوي ومخالفته والمحفوظ ما أخرجه الشيخان بلفظ: (أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم وميمونة كانا يغتسلان من إناء واحد). وحديثه الآخر أخرجه أيضًا الدارقطني وصححه ابن خزيمة وغيره كذا قال الحافظ في الفتح. وقال الدارقطني قد أعله قوم بسماك بن حرب راويه عن عكرمة لأنه كان يقبل التلقين لكن قد رواه شعبة وهو لا يحمل عن مشايخه إلا صحيح حديثهم. قوله: (لا يجنب) في نسخة بفتح الياء التحتية وفي أخرى بضمها فالأولى من جنب بضم النون وفتحها والثانية من أجنب: قال في القاموس: وقد أجنب وجنب وجنب واستجنب وهو جنب يستوي للواحد والجمع اهـ. وظاهر حديثي ابن عباس وميمونة معارض لحديث الحكم السابق وحديث الرجل الذي من الصحابة فيتعين الجمع بما سلف [لا يقال] إن فعل النبي صلى اللَّه عليه وسلم لا يعارض قوله: الخاص بالأمة لأنا نقول إن تعليله الجواز بأن الماء لا يجنب مشعر بعدم اختصاص ذلك به. وأيضًا النهي غير مختص بالأمة لأن صيغة الرجل تشمله صلى اللَّه عليه وسلم بطريق الظهور وقد تقرر دخول المخاطب في خطاب نفسه نعم لو لم يرد ذلك التعليل كان فعله صلى اللَّه عليه وسلم مخصصًا له من عموم الحديثين السابقين. وقد نقل النووي الاتفاق على جواز وضوء المرأة بفضل الرجل دون العكس وتعقبه الحافظ بأن الطحاوي قد أثبت فيه الخلاف. قال المصنف رحمه اللَّه تعالى: قلت وأكثر أهل العلم على الرخصة للرجل من فضل طهور المرأة والإخبار بذلك أصح وكرهه أحمد وإسحاق إذا خلت به وهو قول عبد اللَّه بن سرجس وحملوا حديث ميمونة على أنها لم تخل به جمعًا بينه وبين حديث الحكم. فأما غسل الرجل والمرأة ووضوءهما جميعًا فلا اختلاف فيه. قالت أم سلمة: (كنت أغتسل أنا ورسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من إناء واحد من الجنابة) متفق عليه. وعن عائشة قالت: (كنت أغتسل أنا ورسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من إناء واحد تختلف أيدينا فيه من الجنابة) متفق عليه. وفي لفظ للبخاري: (من إناء واحد نغترف منه جميعًا). ولمسلم: (من إناء بيني وبينه واحد فيبادرني حتى أقول دع لي دع لي) وفي لفظ النسائي: (من إناء واحد يبادرني وأبادره حتى يقول دعي لي وأنا أقول دع لي) اهـ. وقد وافق المصنف في نقل الاتفاق على جواز اغتسال الرجل والمرأة من الإناء الواحد جميعًا الطحاوي والقرطبي والنووي وفيه نظر لما حكاه ابن المنذر عن أبي هريرة أنه كان ينهى عنه وحكاه ابن عبد البر عن قوم. ومن جملة ما يدل على جواز الاغتسال والوضوء للرجل والمرأة من الإناء الواحد جميعًا ما أخرج أبو داود من حديث أم صبية الجهنية قالت: (اختلفت يدي ويد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في الوضوء من إناء واحد) ومن حديث ابن عمر قال: (كان الرجال والنساء يتوضئون في زمان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال مسدد من الإناء الواحد جميعًا) قال في الفتح: ظاهره أنهم كانوا يتناولون الماء في حالة واحدة. وحكى ابن التين عن قوم أن معناه أن الرجال والنساء كانوا يتوضئون جميعًا في موضع واحد هؤلاء على حدة وهؤلاء على حدة والزيادة المتقدمة في قوله: من إناء واحد ترد عليه. وكأن هذا القائل استبعد اجتماع الرجال والنساء الأجانب. وقد أجاب ابن التين عنه بما حكاه سحنون أن معناه كان الرجال يتوضئون ويذهبون ثم يأتي النساء وهو خلاف الظاهر لأن قوله: جميعًا معناه ضد المفترق كما قال أهل اللغة. وقد وقع مصرحًا بوحدة الإناء في صحيح ابن خزيمة في هذا الحديث من طريق معتمر عن عبيد اللَّه عن نافع عن ابن عمر: (أنه أبصر النبي صلى اللَّه عليه وسلم وأصحابه يتطهرون والنساء معهم من إناء واحد كلهم يتطهرون منه). والأولى في الجواب أن يقال لا مانع من الاجتماع قبل نزول الحجاب وأما بعده فيختص بالمحارم والزوجات.
|